إسبانيا في مأزق إنساني.. نقل المهاجرين القصر من سبتة ومليلية يواجه عقبات معقدة

إسبانيا في مأزق إنساني.. نقل المهاجرين القصر من سبتة ومليلية يواجه عقبات معقدة
مهاجرون قاصرون في قبضة السلطات الإسبانية

في مشهد يتكرر كل عام على الضفة الجنوبية من أوروبا، يطفو على السطح مجدداً ملف المهاجرين القاصرين غير المصحوبين في مدينتي سبتة ومليلية الخاضعتين للإدارة الإسبانية شمال المغرب، غير أن هذه المرة لا يتعلق الأمر بموجة جديدة من الوافدين، بل بأزمة تتعلق بكيفية نقلهم إلى الأراضي الإسبانية، في ظل خلافات قانونية وإدارية وضغوط حقوقية متزايدة.

أزمة إنسانية خلف الأسوار

في مراكز الإيواء المؤقتة بسبتة ومليلية، يعيش مئات الأطفال المهاجرين، معظمهم من المغرب ودول إفريقيا جنوب الصحراء، في ظروف معيشية قاسية.

تتحدث تقارير المنظمات الإنسانية عن اكتظاظٍ كبيرٍ ونقصٍ في الرعاية الطبية والنفسية، فضلاً عن غياب مسارات واضحة لتسوية أوضاعهم القانونية، والعديد من هؤلاء الأطفال عبروا البحر أو تسلقوا الأسوار العالية بحثاً عن حياة آمنة، لكنهم وجدوا أنفسهم عالقين بين القوانين والحدود.

وتقول منظمات إنسانية عاملة في المنطقة إن "القاصرين في سبتة ومليلية يعيشون وضعاً غير إنساني، فهم لا يعرفون إن كانوا سيُرحّلون أم سيُمنحون حق الإقامة، ويعيشون في خوف دائم من المجهول".

صعوبات قانونية وسياسية

رغم إعلان الحكومة الإسبانية عن خطة لنقل القاصرين إلى مراكز خاصة داخل البر الإسباني لتخفيف الضغط عن المدينتين، فإن التنفيذ يواجه عقبات قانونية وإدارية وفق تصريحات أدلت بها وزيرة الشؤون الاجتماعية إلى إذاعة "أوندا سيرو" مؤخرا، فالقوانين الإسبانية تُلزم بتحديد هوية كل قاصر، والتأكد من عمره الحقيقي، وإشراك الجهات القضائية في كل خطوة من عملية النقل، وهو ما يؤدي إلى بطء شديد في الإجراءات.

إضافة إلى ذلك، هناك خلاف بين السلطات المركزية في مدريد وحكومتي سبتة ومليلية المحليتين بشأن من يتحمل مسؤولية رعاية هؤلاء الأطفال، وترى السلطات المحلية أن الدولة الإسبانية هي المسؤولة عن التمويل والنقل، بينما تعتبر الحكومة المركزية أن البلديات مطالبة بتحمل جزء من العبء.

هذه التعقيدات جعلت العملية تتحول إلى ملف سياسي حساس، إذ تخشى الحكومة أن يُستخدم موضوع القاصرين كورقة ضغط من قبل الأحزاب اليمينية المتشددة التي تتبنى خطاباً معادياً للهجرة، في حين تضغط المنظمات الحقوقية لتسريع النقل وضمان معاملة إنسانية لهؤلاء الأطفال.

موقف المنظمات الحقوقية والأممية

أعربت منظمة العفو الدولية عن "قلقها العميق" إزاء استمرار احتجاز مئات القاصرين في ظروف غير ملائمة، مطالبة الحكومة الإسبانية باحترام التزاماتها وفق اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل.

وقالت المنظمة إن "القاصرين يجب ألا يُعاملوا كتهديد أمني، بل كضحايا لظروف اقتصادية وإنسانية دفعتهم للمخاطرة بحياتهم".

من جانبها، دعت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين السلطات الإسبانية والمغربية إلى وضع "آلية تنسيق إنساني مشتركة"، تضمن حماية القاصرين وتمنع ترحيلهم القسري.

وأكدت أن عمليات النقل يجب أن تتم "بطريقة تراعي المصلحة الفضلى للطفل"، وأن تشمل توفير الرعاية والتعليم والمساعدة النفسية قبل وأثناء وبعد النقل.

أبعاد إنسانية عميقة

في خلفية هذه الأزمة، تتكشف قصة إنسانية مؤلمة لأطفال لا تتجاوز أعمار بعضهم الثانية عشرة، جاؤوا من أسر فقيرة في مدن مغربية صغيرة، أو من مناطق نزاع في إفريقيا، يحلمون بمستقبل في أوروبا، لكنهم يجدون أنفسهم في مراكز مغلقة لا يعرفون مصيرهم.

وفق منظمة "إنقاذ الطفولة" في مليلية "هؤلاء الأطفال لا يحتاجون فقط إلى طعام وسكن، بل إلى الأمان، كثير منهم يعانون من الصدمات النفسية بعد رحلات خطيرة في البحر أو على الأقدام، وبعضهم فقد أصدقاءه أثناء العبور".

وتضيف المنظمة أن بعض القاصرين "يحاولون الهروب من المراكز بحثاً عن أي وسيلة لمواصلة الرحلة إلى إسبانيا أو فرنسا"، مما يعرضهم لمخاطر جديدة، من الاتجار بالبشر إلى العنف وحتى الموت.

مأزق الهوية والوصاية

من أكبر التحديات التي تواجه السلطات الإسبانية هو تحديد هوية القاصرين فالكثيرون لا يحملون وثائق، وبعضهم يقدم بيانات غير دقيقة خوفاً من الترحيل، وتتطلب عملية التحقق فحوصات طبية أو إجراءات قضائية طويلة، وفي بعض الأحيان، يرفض القاصر التعاون خوفاً من العودة إلى بلده الأصلي.

في المقابل، يرفض بعض أولياء الأمور في المغرب الاعتراف بأطفالهم المفقودين خشية الملاحقة أو العار الاجتماعي، ما يجعل الطفل بلا سند قانوني ولا عائلي، وهو ما تصفه الأمم المتحدة بـ"حالة انعدام الحماية التامة".

جذور الأزمة.. الهجرة عبر البحر والحدود

تعود جذور هذه الأزمة إلى التحولات في طرق الهجرة خلال السنوات الأخيرة، فبعد تشديد الرقابة في البحر المتوسط، تحولت سبتة ومليلية إلى بوابتين رئيسيتين للعبور البري نحو أوروبا، وخلال الأعوام الثلاثة الماضية، ازداد عدد القاصرين غير المصحوبين الذين يحاولون دخول المدينتين عبر الأسوار أو القوارب الصغيرة.

وتقول تقارير وزارة الداخلية الإسبانية إن أكثر من 2500 قاصر دخلوا سبتة ومليلية منذ عام 2023، معظمهم مغاربة، إضافة إلى قلة من دول الساحل الإفريقي.

لكن هؤلاء القاصرين لا يحصلون على وضع قانوني واضح، إذ يُعاملون كمهاجرين مؤقتين بانتظار الترحيل أو التسوية، ما يجعل حياتهم اليومية معلقة.

دعوات لإصلاح شامل

أمام هذا الواقع، تطالب منظمات المجتمع المدني الإسبانية بإصلاح شامل لسياسات الهجرة واللجوء، وبإنشاء نظام استقبال خاص بالأطفال يضمن حقوقهم القانونية ويمنع احتجازهم في مراكز مغلقة.

كما تطالب بزيادة الدعم المالي للسلطات المحلية في سبتة ومليلية لتتمكن من تحسين ظروف الإيواء والرعاية.

وبحسب جمعية "حقوق الإنسان الإسبانية"، فإن الدولة الإسبانية مطالبة بمعاملة هؤلاء الأطفال كضحايا وليس كمتسللين، لأنهم فرّوا من الفقر والاضطهاد، ولا يجب أن يتحولوا إلى أرقام في ملفات الهجرة.

بين السياسة والإنسان

تحولت قضية نقل القاصرين إلى اختبار حقيقي للقيم الأوروبية في مجال حقوق الإنسان، فبين اعتبارات الأمن والهجرة، ومقتضيات القانون الدولي الإنساني، يجد المسؤولون الإسبان أنفسهم أمام معادلة صعبة: كيف يحمون الحدود دون أن ينتهكوا حقوق الطفل؟

وفيما تتبادل مدريد والسلطات المحلية الاتهامات بشأن المسؤولية، يبقى القاصرون عالقين في مراكز مكتظة، ينتظرون قراراً قد يحدد مصير طفولتهم بأكملها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية